كُتب يوم 22 يناير, 2012
بقلم: الدكتور ناصر بن غيث
على الرغم من الأثر السلبي الكبير المتوقع من خطة «التيسير الكمي» التي وضعها «الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي» لشراء ما مقدراه 600 مليار دولار من سندات الخزينة الأمريكية متوسطة الأجل بمعدل 75 مليار دولار شهرياً، وعلى الرغم من ردة الفعل التي خرجت من أصول الدبلوماسية الدولية من قبل الشركاء التجاريين الرئيسين للولايات المتحدة، إلا أن دول الخليج لاتزال تصر على أن سياسة ربط عملاتها الوطنية بالدولار، وكذلك تقويم وربط أسعار ومبيعات النفط بالدولار، قرار استراتيجي صائب، مستبعدة بذلك أي إمكانية لمراجعة هذه السياسة،
لعل من المعلوم لدى المتابعين للشأن الخليجي والعلاقات التي تربط دوله بالقوى الدولية، خصوصاً الولايات المتحدة، أن قرار ربط العملات الخليجية قرار يتجاوز الاقتصاد إلى السياسة، بمعنى أنه قرار يقوم على اعتبارات سياسية واستراتيجية أولاً، ومن ثم اعتبارات اقتصادية، ولما يزيد على الثلاثين عاماً لم يكن هناك تعارض حقيقي بين الاعتبارات السياسية والاقتصادية في ما يتعلق بالسياسات النقدية لدول الخليج، وذلك لكون الولايات المتحدة الأمريكية الشريك التجاري والاقتصادي الأول لدول الخليج، إضافة إلى كونها الحليف الاستراتيجي الأبرز إن لم يكن الوحيد، إلى جانب أن الدولار كان العملة الأولى للاقتصاد العالمي، وعملة الاحتياط العالمية الأقوى بالرغم من تراجع نظام «بريتون وودز» نتيجة تخلي الولايات المتحدة عن قاعدة الذهب التي وفرت درجة كبيرة من الاستقرار للدولار، وأسهمت في تربعه على قمة العملات، كما أن تناغم الدورات الاقتصادية في دول الخليج والولايات المتحدة الأمريكية أسهم كذلك في تقليل التكلفة الاقتصادية وتعظيم العائد من عملة الربط بالدولار.
لكن ومع تغير الأوضاع الدولية والأوضاع الداخلية لدول الخليج فقد بدأت تكلفة ربط العملات الخليجية بالدولار في الارتفاع إلى درجة قد تصل إلى مستوى تفوق فيه الفائدة من هذا الربط، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع الأصوات من داخل دول الخليج ومن خارجها داعية إلى أن وقت فك هذه الارتباط قد حان، فمن ناحية فإن تراجع الاقتصاد الأمريكي وارتفاع الدين العام والخارجي أدى ذلك إلى دخول أسعار صرف الدولار في منحنى هبوطي متواصل، ما أدى إلى ضعفه ومن ثم إضعاف العملات المرتبطة به ومن ضمنها العملات الخليجية،
إضافة إلى ذلك فقد أدى تراجع قيمة الدولار كذلك إلى تراجع العوائد الحقيقية لمبيعات النفط المقومة بالدولار، ومن ناحية أخرى فقد بدأت الدورة الاقتصادية للولايات المتحدة في الابتعاد عن مثيلاتها في دول الخليج، بمعنى أنه عندما يكون الاقتصاد الأمريكي في مرحلة التراجع تكون الاقتصادات الخليجية في مرحلة النمو، حيث إن الاقتصاد الأمريكي -مع بداية القرن الجديد- بدأ يعاني من تراجع وركود مزمنين بعد انفجار ما أصبح يعرف بفقاعة التقنية (com Bubble)، ما دفع السلطات الأمريكية إلى اتباع سياسة نقدية تضخمية وذلك بخفض سعر الفائدة والإبقاء عليها عند مستويات منخفضة (قريبة من الصفر) لفترة طويلة، في حين أن اقتصادات دول الخليج بدأت تشهد مرحلة نمو غير مسبوقة بفضل الطفرة الكبيرة في أسعار النفط، ما جلب ذلك مستويات عالية من معدلات التضخم، ما تطلب سياسة نقدية انكماشية وأسعار فائدة عالية، لكن وبسبب ارتباط العملات الخليجية مع الدولار- الأمر الذي يتطلب تناغم السياسة النقدية- فقد عجزت دول الخليج عن محاربة التضخم، الذي بلغ في بعض دول الخليج ما يزيد على 25 بالمئة، أو الإبقاء عليه عند مستويات معتدلة، وبذلك تكون تكلفة ربط العملات الخليجية بالدولار قد زادت من ثلاثة أوجه، الأول ارتفاع أسعار الواردات القادمة من الاتحاد الأوروبي وآسيا، والثاني تراجع قيمة الصادرات (النفط والغاز) المقومة بالدولار، والثالث العجز عن مكافحة التضخم الناشئ من معدلات النمو العالية.
ونتيجة هذه التطورات، إضافة إلى سعي دول الخليج الحثيث إلى تنويع مصادر دخلها وتقليل اعتمادها على عوائد النفط والغاز، فإن من مصلحة دول الخليج أن تكون لها سياسة نقدية مستقلة أولاً، وعملات أو عملة قوية ثانياً، وفي ما يتعلق بالسياسة النقدية المستقلة فلا شك أن السياسة النقدية تعتبر اليوم إحدى أهم الأدوات التي تملكها الحكومات لإدارة الاقتصاد الحديث –وذلك رغم اتفاقنا من عدمه على ذلك- كما أنها تعتبر كذلك من أهم الأدوات العلاجية للتعامل مع المشاكل والأمراض التي يعاني منها الاقتصاد الحديث مثل الركود والتضخم والبطالة وتراجع الإنتاجية والتنافسية وغيرها من المشاكل سواء الآنية الطارئة أو الهيكلية المزمنة.
إن تنويع مصادر الدخل في دول الخليج يحتاج إلى اتخاذ العديد من الإجراءات، من ضمنها إجراءات تتعلق بالسياسة النقدية للتحكم في أسعار صرف العملات أو العملة الخليجية، إذ من المعلوم لكي تتمكن دول الخليج من تنويع مصادر الدخل لديها فلابد من تطوير وتنمية قطاعات وصناعات جديدة، ولتنمية هذه القطاعات لابد من توفير نوع من الدعم والحماية لها ولفترة معينة تتمكن بعدها من المنافسة على المستوى الدولي، وبما أن لدول الخليج أعضاء في منظمة التجارة العالمية التي تفرض الكثير من القيود على الدول في ما يتعلق بالسياسات الحمائية التجارية مثل رفع معدلات الضرائب الجمركية أو تقديم أي شكل من أشكال المعونات أو الدعم أو المعاملة التفضيلية للسلع والخدمات الوطنية على حساب السلع الأجنبية، فإن السياسات النقدية تكتسب أهمية خاصة كونها الأداة الوحيدة المتاحة لحماية ودعم القطاعات والصناعات الخليجية الوليدة، وذلك من خلال التحكم في أسعار الصرف لإكساب هذه الصناعات أفضلية تنافسية على السلع الأجنبية المنافسة، إضافة إلى استقلالية السياسة أو السياسات النقدية الخليجية،
كما أن من مصلحة الدول الخليجية كذلك –على المدى القصير والمتوسط على الأقل – أن تكون لها عملات أو عملة قوية وذلك لسببين، الأول كونها مستوردة صافية (Net Importer)، والثاني كون صادراتها الرئيسة (النفط والغاز) لا تتأثر بأسعار الصرف، فبالنسبة إلى السبب الأول فإنه من المعلوم لدى الجميع أن دول الخليج تستورد مجمل احتياجاتها من سلع أولية أو متوسطة أو تامة التصنيع، ولذلك فإن العملات الخليجية القوية ستنعكس على تكلفة الواردات التي ستكون منخفضة، ما سينعكس على التضخم الداخلي الذي سيكون منخفضاً بدوره أولاً على رفاهية المواطنين، وثانياً على استقرار الاقتصادات الخليجية، وثالثاً على تنافسيتها وجاذبيتها للاستثمار الأجنبي، هذا في ما يتعلق بالسبب الأول، أما السبب الثاني فمن المعلوم أن صادرات الدول الخليجية –التي يأتي النفط والغاز في مقدمتها- لا تتأثر كثيراً بأسعار صرف عملاتها مقابل عملات الدول المستوردة كون السلع الأساسية في الصادرات هي النفط والسلع البتروكيماوية التي يتميز الطلب عليها بعدم المرونة، بمعنى أنها من السلع الأساسية التي عادة ما يبقى الطلب عليها في مستوياته المعتادة بغض النظر عن ارتفاع أسعارها أو تراجعها، مثل الدواء مثلاً والذي لا يرتبط مستوى الطلب عليه بأسعاره بقدر ما يرتبط بالحاجة إليه، والحاجة إلى النفط في ازدياد مستمر بسبب النمو السكاني والاقتصادي الكبير في الكثير من الدول، خصوصاً الاقتصادات الناشئة
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى بسبب النماذج الاقتصادية التي تتبناها معظم دول العالم، خصوصاً الدول الصناعية والدول الصاعدة والتي تقوم على فرضية تقول إن للاقتصاد قابلية النمو اللامنتهي أو ما يعرف بالنمو الجذري (Exponential Growth) الذي يفترض كذلك النمو اللامنتهي في عرض عوامل الإنتاج التي تأتي مصادر الطاقة في مقدمتها، الأمر الذي يعني في المحصلة أن ارتفاع أسعار النفط لن يؤثر –بصورة مباشرة أو آنية على الأقل- في الطلب عليه، حيث إن ذلك سيرفع من العوائد سواء الاسمية أو الحقيقية.
وفي المحصلة فقد تكون سياسة ربط العملات الخليجية بالدولار أسهمت في توفير الاستقرار الاقتصادي الذي كان يحتاجه الاقتصاد الخليجي الذي كان يمر بمرحلة البناء، لكن ومع تغير الكثير من الظروف سواء الدولية أو ظروف اقتصادات دول الخليج التي تحولت من مرحلة البناء إلى مرحلة الاستدامة التي تتطلب درجة معينة من التنوع، فإن تكاليف هذه السياسة قد تكون وصلت إلى مرحلة تعادل التكلفة والعائد إن لم تكن التكلفة قد تجاوزت العائد بالفعل، ولعل تبني العملة الخليجية الموحدة تمثل الفرصة المؤاتية لتكون لدول الخليج عملتها الموحدة، بل والأهم سياستها النقدية المستقلة.
منقول عن مقالة نشرت في مجلة الرؤية الإقتصادية في ديسمبر 2010
Recent Comments